كان يومًا شتويًا باردًا، على غير العادة في أول نوفمبر، ولم أكن يومها أرتدي إلا ملابس خفيفة لا تتناسب مع ذلك البرد، وقد دخل المعلم الفصل تسبقه رائحته الجميلة التي هي خليط من الورد والياسمين، وقد اتجه المعلم بجسده الضخم وملامحه الجميلة التي تجذبك رغم ضخامة بُنيته، فقد كان وسيمًا بحقّ، بل إنك تشعر أنه مذيع لإحدى البرامج الحوارية، فقد كان طويلًا عريض المنكبين، رشيقًا رغم ذلك، وله صلعة جميلة، ووجه أبيض منير، وعندما تنظر في عينيه تجد اللون الأسود اللامع والابتسامة الجميلة تعلو شفتيه المكتنزة، وقد نظر إليّ وقال بابتسامة:
- يبدو أن الجو عندكم ما زال حارًا!
ابتسمتُ وقلتُ له بتحدٍ:
- أنا أحب الشتاء، ولا أشعر بالبرد!
اقترب أكثر وقال بصوتٍ حنونٍ هامس:
- في الصف الأول الإعدادي ولا تشعر بالبرد! اطلب من أمك أن تعطيك ملابس ثقيلة من أجلي أنا حتى لا أشك في لياقتي! كما أنني لا أُحب أن أُصاب بالبرد عن طريقك.
ضحك المعلم بينما ارتبكت ولم أنطق! وماذا أقول!
رد صديقي "عادل" لأنه كان قريبًا كفاية ليسمع الحوار:
- أمه متوفاة!
تأثر المعلم لكلام عادل، وحاول أن يعتذر بعينيه قبل لسانه، لكنني لم أستطع تصنّع التماسك، فقد خرجت دموعي بوقاحة دون إذن مني لتعلنها صريحة، نعم أنا يتيم!
بعدها غيّر المعلم الموضوع، وقد طلب منا أن نكتب عن الفقر وتأثيره، وكيفية التغلب عليه! وقد صمتُ وأنا أدور بعيني حولي أتأمل تلك الوجوه الخالية من أي أثر للفقر، إنهم نخبة من أولئك المرفهين الذين ولدوا وفي أفواههم كل الملاعق الذهبية، وتساءلت كيف لهم أن يعرفوا الفقر ليكتبوا عنه؟
نعم إن الكتابة عن الفقر شيء صعب!
فكلنا يتخيل الغنى، ويُبدع في وصفه، لكن لا أحد يستطيع أن يصف الفقر ما لم يعشه! وأنا قد عشت فيه، وترعرع داخلي فأصبح يخنقني بل ويحتل مساحة تنفسي، ورغم كرهنا لبعضنا البعض يبقى متمسكًا بي، ولا أدري لماذا؟
يومها كتبت بعض قشور، فكيف أسكب نهرًا من المشاعر على ورقة ضعيفة لن تحتمل، فكتبت بحذر مشفق على تلك الورقة البيضاء أن يلفها الحبر الأسود ناسجًا خيوط الفقر، وقد أمسك الأستاذ موضوعي وبدأ يقرأه على زملائي،
"أنا "نور" زميلكم في الصف، ولا أعلم هل أنا في نعمة أم نقمة! ولا أقول أنني سعيد دائمًا بينكم، فأنا أخاف البيت وأخاف أكثر منه المدرسة، فهل تعلمون لماذا؟
سأبدأ بالحديث عن بيتي المتواضع الذي أستحي أن يراني فيه أحد، ولن أقول أنني لا أستحي من الفقر، نعم أنا أستحي من الفقر!
أستحي منه بشدة، فما الفخر ألا أملك ما يسد جوعي أو يستر أعين الناس عني!
ما الفخر في أن ألبس حذاءً لا تعرف لونه إلا بعد عناء!
يا سادة، إن كل ما في الفقر مؤلم، قاتل للروح خانق للكرامة.
آلاف الأسئلة تدور في رأسي كل يوم، وللأسف لا أجد من يجيبني! ولا يكون أمامي سوى الله أسأله كل يوم قبل نومي:
"يا رب، لماذا أنا فقير! ولستُ غنيًا مثل زملائي في المدرسة؟ ولماذا يتحتم عليّ أن أموت وجعًا لفقري، وهم يضحكون فرحًا وتباهيًا بأصناف طعامهم الفاخر الذي لا أعرف اسم معظمه، يا رب، لماذا يجب أن أُغيّر الموضوع كلما سُئلت ببراءة:
- لماذا لا ترتدي إلا حذاءً واحدًا طوال العام؟
وأين ملابس الرياضة؟ وأين.. وأين؟
ثم نظرت للسماء بعيون منكسرة دامعة وقلتُ:
- يا رب، سامحني حين أتوارى خجلًا حين أراهم يركبون سياراتهم الفارهة، لذلك أحرص على أن أكون الأخير دائمًا أو بالأحرى غير المرئي؟
لا أقول أنني أحبكم فأنا أخشى أنني أكرهكم جميعًا، كما أكره حياتي وضعف أبي حين أطلب منه أدوات للمدرسة أو أشياء بسيطة يتعامل معها أقراني بالصف على أنها أشياء عادية في حين أنها أحلام بالنسبة لنا نحن الغلابة، بل إن الفقر نفسه يستحي منا.
كل يوم أنظر حولي أتأمل صور المديرين والسادة والوزراء على الحائط الشرفي في طرقة المدرسة، وقد سألتهم سؤالًا واحدًا "
"يا من وضعتموني في مدرسة خاصة، لقد ارتكبتم جرمًا بشعًا في حقي،
فهل الذكاء كافيًا لأكون هنا! "
ثم استدرتُ باكيًا مستندًا على الحائط والصور فوق رأسي كما عاشوا فوق أكتافي وقلت:
- ما بكم؟ لقد أدخلتموني عالمًا لا أستطيع الحياة فيه، وجعلتموني أرى ما كنت أظنه غير موجود، إنني أكرهكم.. نعم أكرهكم وبشدة.. وقد سئمت من تصنع غير ذلك، كما أكره فقري وحاجتي، وأكره كذبي حين أبحث عن حجج لأواري بها ضيق يدي وعجز أسرتي،
لكم أن تعتبروني كذابًا ومحتالًا، لكنني لم أكن يومًا كذابًا أو محتالًا ولا حتى متجملًا، بل أنا أريد أن أُصبح مثلكم فأملك أبسط درجات الإنسانية التي لم أكن أشعر بحرماني منها لولا وضعكم لي هنا!
ويبقى السؤال الذي يدور كل يوم في رأسي ليخنقها ويُغذي داخلها كل صوت أسود:
- لماذا أنا بين هؤلاء الذين لم نكن نراهم سوى خلف زجاج سيارتهم أو عبر نافذة قطار فاخر يمر غير مكترث بأمثالنا! نعم ماذا أفعل هنا بين الذين يفترشون الرصيف ليبيعوا بضاعتهم البسيطة التي في مجملها لا تصلح لتكون ثمن حذاء لأحد هؤلاء."
انتهى موضوعي وأعلم أنكم تتساءلون كيف لصغير أن يقول هذه الكلمات الكبير؟
لكني تقلّبت في شوارع الحياة، وهي بلا شك معلم بارع كما هي جلاد لاذع، ولقد كرهتُ الدنيا منذ تعرّض أمي لحادث أمام عيني، فقد تم دهسها على يد سائق متهور لم يرَ ضعفها وحاجتها، ولم يحفل بأخي الصغير تحمله على يدها يستمد منها قوته.
و لا أذكر ما حدث جيدًا، لكن كل ما أذكره هو صراخ من حولي وقطرات الدم تُغطي أمي الجميلة، كما أتذكر تغيّر لون أخي إلى الأصفر، واستمرت أمي ملقاة أكثر من ساعة على جانب الطريق في انتظار عربة الإسعاف، وأنا وأخي نصرخ ولكن لا مجيب،
وأتذكر أنني مددتُ يدي كثيرًا وقتها لتصل ليد أمي علّها تُمسكها ولكن هيهات، فقد كان الفراغ هو ما احتضن تلك اليد المرتعبة، حتى أنني لملمت أخي من على الأرض وجلستُ أحميه بجسدي ولا أعرف كيف استطعتُ حمله!
وكيف كان المارة يمرون من حولنا يرمقوننا بنظرات الشفقة والحزن، لكنهم سرعان ما يعبرون ويحضر غيرهم! ومن يومها أدركتُ أننا المنسيون أو غير المرئيين.
حتى جاء أبي واحتضن أمي أو جسدها المنهك، وما أقساه من حضن!
وكان يغسل وجهها بدموعه، فاختلطت دموعه بالدم على وجهها،
ومن يومها لم أعد أحب الأحمر أو الأبيض أو غيره من الألوان، فكيف أحب الألوان وحياتي خالية منها؟
يومها نظرتُ إلى أبي نظرة لن أنساها طوال حياتي، ظننتُ عندها أن أمي ماتت جسديًا، وعلمتُ أن أبي لحقها نفسيًا.
وما أصعبه من موقفٍ! وما أقساه من يوم!
فقد ماتت أمي و مات معها عالم كامل داخلي، لقد سكنت عين أمي في حين اشتعل في قلبي بركان خامد، اشتعلت في قلبي نيران تكبر كل يوم فما زال مَن حرمنا منها يركب سيارته ويُشعل سيجارته، وينفث فيمن حوله دخانها، فصرنا بالنسبة له مثل هذا الدخان الذي سرعان ما ينتهي، ولقد حفظتُ ملامحه، وسأكبر لأنتقم منه، نعم سأنتقم منه ومن ذلك القاضي الذي أحفظ شكل عينيه وهي مليئة بالحقد والغضب مننا نحن الفقراء، ولم أنسَ ملامحه وهو يقرأ اسم القاتل مصحوبًا باحترام كبير ممدود لأبيه، وقد قالها براءة، ليطعن كل ما بقي من طفولتي:
- براءة، هل تتخيلون براءة!
أعلنها ليقتل داخلي كل براءة، وليكسر بها ما بقي في قلب أبي من حياة،
يومها فقط أحسستُ برعشة تسري في جسد أبي، وحينها فقط خفتُ من كل شيء
هل علمتم الآن لماذا أخاف؟ لأن الخوف هو الرفيق الذي لا يخاف مني،
بل يبقى معي مهما عدّت عليّ الخطوب".
التوقيع (صديقكم المُعذّب نور)
انتهت كلماتي التي تمنيت أن تنتهي معاناتي معها لكنها لم تفعل! بل بقيت النار مشتعلة وبقيت المعاناة تكبر بسرعة غريبة لتخنقني معها. بينما تأثّر زملائي لكلماتي بل إن بعضهم قد بكى من وقع الكلمات، وقد صفّق المعلّم وصفّق الجميع وقد ظهرت ملامح الإعجاب على المعلم فقال:
- يبدو أن عندنا "نجيب محفوظ" جديد، ما أحملك يا نور حين وصفت الفقر ومعاناة الفقراء، لقد أبدعت وسأُرسل موضوعك لمسابقة الإلقاء في الإدارة التعليمية. أشعر أنك كنت كمن يعيش الفقر بكل تفاصيله.
لم يكن المعلم يعي أنني لم أتخيل الفقر فعلًا، وكيف تتخيل ما تعيشه واقعًا كل يوم
وبعد يوم طويل وصلتُ بيتي، وقد قابلني ابن عمتي "أيمن" أمام بيته (الذي تكفّلت فيه عمتي برعايتي مع أخي) فقد مرّ على فراق أمي زمن لا يمر، لم يذق فيه أبي طعم الراحة ولا نحن عرفنا فيه لون الفرح. وقد بادرني أيمن الذي كان صغير الجسم كبير القلب، له عينان بنيتان واسعتان وشعر أجعد بني لامع جميل، ولون ما بين الأسمر والأبيض حتى كأنه بطل فيلم هندي وسيم، لكنه كان فعلًا بطل حياتي ومصدر فخري، حتى أنني أريد أن أصير رشيقًا ومحبوبًا مثله، وقد بادرني قائلًا بعيون تفيض حنان:
لماذا تأخرت يا نور؟
لم أُجب، لكني أسرعتُ نحوه وارتميتُ في أحضانه لأهرب من هذا العالم، فهو صديقي الوحيد فيه، و رغم فارق العمر بيننا، وهو ما جعلني ما أنا عليه فهو يسمعني ويتحمّل تقلباتي التي لا أفهمها، بل أحتمل الحياة لأنه يدعمني ويراني في حين لا يفعل الكثيرون.
نظرت في عينيه كما تعوّدت حينما أشعر بالتعب، لكني شعرت بشيء غريب لم أعهده معه، وعندما رفعت عيني لأنظر إليه وجدتُ دموعه قد سقطتُ على خدي فتعجبتُ وخفتُ حد الموت وقلتُ له:
- ماذا يحدث ولماذا تبكي؟
- يا نور، أنت قوي، وأنا أعلم أنك لا تحتاج لأحد لتنجح في هذه الحياة.
قلت والدموع تسبقني وأنا أضربه بكل قوتي وعيون تكاد تموت خوفًا وكمدًا:
- لا لستُ قويًا، من قال لكم ذلك؟ إياك أن تتخلى عني كما يفعل الجميع.
رد بصوت مخنوق:
- ومن قال لك إنني سأتركك؟ بل سأكون على تواصل معك.
- لا أحتاج كلام الشعارات ولا ألفاظ التلفاز ولا تقول لي مقدمات فأنا قد سئمت المقدمات، قل ما بك؟
رد بصوت لا أكاد أسمعه لصوت دموعه التي تطرق الباب على استحياء:
- وجدتُ فرصة عمل لإحدى الدول العربية وأعدك...
قاطعته وقلتُ وأنا أضربه بكل قوتي:
- لا أريد وعودًا من أحد! وكيف لي أن أطلب أن تعطيني الدنيا شيئًا!
إنها فقط تأخذ مني القليل الذي لدي، وكما أخذت أمي من قبل تأخذك اليوم مني.
ثم صعدتُ جريًا أحاول المرور بين أولاد الجيران على السلم، حتى وصلتُ إلى سريري المهترئ وألقيتُ بنفسي عليه، ورغم كل الأصوات من حولي فلم أسمع أحدًا، بل أُحاول أن أُفتّش عن بعض القوة داخلي فلم أجد شيئًا بل فراغ موحش قاتل.
وأنا ألوم كل شيء حولي، بل وأكره كل من يقول إنني لا بد أن أتحمل
ماذا أتحمل!
فقد جئتُ إلى الدنيا لأكون حملًا ثقيلًا على من أنجبوني، فكيف أطلب من الغير أن يتحملوني!
ومرت أيام تجنبت فيها الحديث مع أبي، ولا أعلم لماذا كنت ألومه؟
هل لأنه تزوّج أمي أصلًا، وحرمها فرصة أن تُنهي تعليمها الجامعي وترتبط بمن يهتم بها أكثر، ولا يتركها للفقر يتغذى على ضعفها، أم لأنه أنجبني في حياة يغزوها العوز غزوًا حتى قد نخر كل عظامها؟
أم لأنني وأخي سندفع فاتورة ذلك الفقر الذي جاء أبي بنا إليه!
وبينما أُفتّش في نفسي عن سبب لأُعامل أبي كما أفعل -ولأبحث عن مبرر لكل تلك القسوة داخلي تجاهه- وجدت يدًا تربت على كتفي، وكان أيمن يطمئن عليّ ولم أكن أعرف أنها المرة الأخيرة.
فقلتُ له:
- من فضلك لا أريد وداعًا، فلتخرج من حياتي، فأنا لا أريدك، لا أريدك. وبكل أصوات الكون صرخت.
تجمّع الأولاد ما بين متأثر لرحيل أيمن وبين من يحسده لأنه وجد فرصة ليخرج من بوتقة الحارة ودائرة العوز،
فكم مرة تكررت القصة وكم تكللت تلك المرة بالنجاح!
فقد مروا بهذه التجارب من قبل، فمن يُجرّب حياتنا يعرف أن حياتنا متغيرة متقلبة غير ثابتة فمن يركب البحر عليه أن يتعلّم التعامل مع المفاجآت،
وبعد برهة هدأتُ فيها قمتُ وجريتُ إلى النافذة لأراه للمرة الأخيرة، لكنني لم أجده فجريتُ ونزلتُ السلم مسرعًا حتى كان قلبي يسبق خطواتي، وجدته يحمل حقيبته ويخرج وظهره تجاهي، لكنه شعر بي وأنا أجري خلفه، فاستدار وأمسك بي وكان يومًا قاسيًا جدًا حيث رحل وبقيت لي وحدتي.
نمتُ لا أعلم كيف نمت؟ ولا مقدار الهم الذي في هذه الليلة قد حملت؟
دخل علينا الفصل الأخصائي الاجتماعي الأستاذ حسن، وكان طويل الجسد نحيفًا إلى حدٍ ما، جهوري الصوت له شعر أجعد ووجه أبيض مُشرب بحمرة وعيناه تميل للون الأخضر وقد اقترب مني وقال:
كيف حالك يا نور؟
قلت له بخوفٍ وعيناي تتفحصه:
- نعم؟
- أقول لك كيف حالك؟ فتقول نعم!
- مرحبًا أستاذ حسن.
قال بكل حنانٍ وأحسستُ نحوه بشيء غريب، فقد كانت عيناه تحتضنني:
- أريدك بعد الحصة في مكتبي.
وفعلًا ذهبت والخوف يتملكني فوجدته يقرأ ملفًا ما، وحينما دخلت وجدته يقفز من مكانه قائلًا:
- لقد قرأتُ موضوعك في التعبير، وأعلم كم أنت موهوب ومجتهد في كل المواد وقد قررت إدارة المدرسة أن تشترك في المسابقة الدولية في الرياضيات.
أحسستُ ببعض الهدوء في نفسي ثم
وجدتُه يكمل:
سمعتُ عنك الكثير من معلميك، وذلك الكلام يؤكد أنك متميز لكنني ألاحظ أن مستواك لم يعد كما كان، وأريد لأن أسمعك.
قلت له وأنا أحاول أن أفتح عيني المتورمتين من بكاء أمس:
- لا أعرف ما يحدث لي، فحتى صديقي الوحيد سيتركني ويرحل،
ولا أعلم هل سيعود يومًا أم ستخطفه الغربة مني؟
رد بصوت محفز:
أريدك أن تتعلم أمرًا، الحياة قاسية لا ترحم وسواء كنت هنا أو في أي مكان فلا تتعشم في أحدٍ كثيرًا، واعلم أن كل من في حياتك عابرون راحلون.
- كل من في حياتي يتخلى عني.
رد بقوة لكنها مختلطة بشفقة وعطف:
- إذًا لا تعتمد سوى على نفسك، ولا تنتظر أحدًا بجوارك.
- هل تطلب مني أن أعيش وحيدًا؟
- لا، بل أطلب منك أن تكون قويًا بذاتك، ولا تضع أحلامك بسلّة وتُعلّقها على كتف غيرك بل اجعل سلّتك في رقبتك أنت، تعلّم ألا تتعشم كثيرًا فيمن حولك.
- هل أستحق ما يحدث لي؟
قام من جواري ونظر للنافذة بعض الوقت وقد لاحظت عرجه وهو يمشي ثم قال وعيونه تنضح ألمًا: - لا أحد يستحق السيئين من حوله!
قلت وأنا مرتعب ألا يفهمني أو يشعر بي :
- أكره من حولي.
رد بحنو بالغ وقد بدأ يستوعب وجعي ويدرك أنني لست طفلًا كما يبدو على جسدي الهزيل، وأن العمر لا يُقاس بالأيام:
- كل الناس لها أعين، وهناك من ينظر فقط للأرض بينما هناك من يتطلع إلى جمال السماء وأنت من تُقرر أين تنظر!
- كيف تطلب مني الحب وأنتم أيها الكبار تفتقدونه؟ بل تستمتعون بالكره، فهنا حرب وهنا قتل وهنا سفك وتشريد؟
كيف تطلبون منا أن نعرف الحب وأنتم يكره بعضكم بعضًا؟
فحتى حين تصنعون لنا لعبًا تكون أسلحة وقتلًا ودمارًا؟
للأسف أنتم تزرعون الكره وتريدون أن نجني منها ثمار الحب!
ابتلعتُ ريقي وأكملتُ بنفس الوجع في كلماتي: - يا معلمي،
أنا أُشفق على حياتكم المريضة قدر إشفاقكم على حياتي البائسة بسببكم!
اقترب مني وقد التقت عيناي بعينيه فشعرتُ بهما تتوسلان أن أسمعه وقال:
- قرأتُ ملفك يا نور، ولن أقول أنه سهل أن ترى موت أمك وأنت بعمر الزهور، لكن انظر إلى أبيك ما زال يقف بجوارك، وعمتك لم تتخلَّ عنك، أما أخوك فهو يحتاجك بجانبه، وأمك روحها تشعر بك، و لا بد أن تجدك قويًا بجوارها.
لم أفعل سوى البكاء، وهو ما كنتُ أجيده.
اقترب مني أكثر ومسح على رأسي وأكمل:
كيف تنتهي آمالك وما زال الطريق في بدايته!
وكيف تكون بهذا التشاؤم وأنت ما زلتَ صغيرًا؟
انظر لحالك، أنتَ لستَ مخطوفًا وأهلك ما زالوا يبحثون عنك؟
ولا رماك أبوك في الشارع بعد موت أمك لأنه لا يرغب في تحمّل مسؤوليتك؟
إذن فأنت في نِعم لا تراها، وحياة ما زالت أمامك ولم تنتهِ بعد، وستُقابل أشخاصًا وتتخذ مواقف لم تكن تريدها يومًا، فنحن هنا لا لنختار حياتنا بسهولة بل لنكافح واقعًا فُرض علينا.
بكيتُ ثانيةً ولكن هذه المرة بصوتٍ مرير، ولا أعلم لماذا أبكي بهذا الشكل الذي يجعله نحيبًا لا بكاءً!
لكنني لم أتمالك دموعي، وقد طلب مني أن أهدأ بعد أن حمل كرسيه ووضعه بجواري ومسح ثانية على رأسي ثم قال:
- للأسف أنت لا ترى سوى نفسك ولا تنظر جيدًا حولك.
- لا أحد حولي.
- أريد أن أُخبرك أمرًا ولكن بعد أن أحكي لك قصة لمن كانت ظروفه أصعب منك وتحمل حتى...
قاطعته قائلًا وأنا أقف أمامه وأنظر له بعيون كلها رفض لما سيقوله:
- لا أريد حكايا عن أحد، ولا أحب أن أسمع قصصًا نهايتها سعيدة، لأن حياتي لن تكون كذلك، فأنا أعيش في قصة لا تنتهي، فلا تقل لي إنني في نِعم، وإنني لا بد أن أتحمل الجوع في حين أن من حولي يُلقون أصناف الطعام التي لا أعرف سوى ألوانها في سلة القمامة لأنهم يضجرون من تعددها في حين يقرصني الجوع قرصًا.
كيف أتحمّل كل هذا الكذب والتفنن في إخفاء ضعف لا أحب أن يراني أحد فيه!
لا تقل لي تحمّل وأنا أكره نفسي لأنني أُخفي عنهم حقيقتي حتى لا يسخرون مني أو ينظرون إليّ نظرة إشفاق وأنا أملك كبرياءً يقتلني حين يُصبح كل أحلامي أن أحصل على حذاءٍ جديد يحفظ قدمي ويُلملم كرامتي،
- يا نور، إن المال ليس الحل دائمًا، ونحن حولك ونحبك لأنك أنت وكما أنت.
- لكن المال هو الحل عندي لكل المشاكل، ويومًا ما سأكون غنيًا، بل غنيًا جدًا ولن أرحم من يقف في طريق حلمي.
- أنت صغير ولا تفهم الدنيا، فقط تحتاج الحب، تحتاج أن يشعر بك من حولك، ونحن نحبك.
- الناس لا تحترم سوى الغني أما الفقير فلا مكانه له عندهم ولا مراعاة لمشاعره لذلك أنا أكرهكم، بل أكرهكم جدًا، ولا أريد أن أكبر لأصير منافقًا مثلكم.
رد بقوة: أنت لا تعرف معنى ما تقول، وأنا متأكد أنك أقوى من ذلك، وستفهم يومًا أن المال أقل مشاكل الحياة، وعندما تتعلم الدرس ستدرك كم أنت قوي!
قلت بغضب: لا لستُ قويًا، من قال لكم هذا؟
تعجّب من جرأتي فصمت، أما أنا فأكملتُ كأن الأمر أصبح لا يعنيني،
فما أصعب أن تُقاتل شخصًا يائسًا ليس لديه ما يخسره! وأنا قد خسرت الكثير لذلك قلت له:
- أنتم الأغنياء تفترضون ما ليس واقعًا إلا في عقولكم حتى لا تروا أوجاعنا الحقيقية وتصورنا ضحكتنا الوحيدة وتكتبوا تحت الصورة ما أجمل الفقراء!
مسح على شعري مرة كأنه يعطيني بعض الأمان ولا يدري أن وضعي أصعب بكثير وقال:
- أنت تتوهم أن المال علاج لكل مشاكلك، وأن رائحة النقود تملأ الحياة عبيرًا، ولكنك للأسف مخطئ ومع ذلك مهما كنت يا نور، فأنا معك وسأدعمك لتصبح قويًا كي تفهم حقيقة من حولك وما حولك، وأعدك ألا أتخلى عنك.
رددتُ والدمع يسبقني:
- إنكم أيها الكبار تجيدون الكذب قدر إجادتكم للكلام، وأنا قد سئمتُ الكلام، ورغم صغري كما تقول إلا أنني متأكد أن هذا العالم قاسٍ ولا يرحم فإما أن أكون قرشًا أو تأكلني القروش و أعدك أنني لن أكون مسالمًا.
- نعم هناك القروش، ولكن هناك أيضًا الدولفين، انظر كم هو سعيد ويلعب ويغني، ولم ينقرض بل بقي رغم وجود القروش لأنه تعلّم التكيف وحب الآخرين، فحين يفترس القرش الناس يُلاعبهم الدولفين، فأيهما تُحب أن يكون بجوارك!
لا يتطلب الأمر أن تصير قرشًا كي تعيش، فقط تعلم كيف تعيش؟ عليك أن تحاول أن تخرج كل تلك القسوة من قلبك وأعدك أنك بعدها..
قاطعته وأنا أفرك يدي ببعضها بكل قوة:
- لا أريد وعودًا من أحد، ولن أكون مثاليًا بعد اليوم، كيف تطلبون مني أن أصير شخصًا لستم عليه؟
ولن أنتظر منكم شيئًا، فلتستمروا في نرجسيتكم المريضة، ولا تنظروا إلينا وإلى ضعفنا بل يكفيكم رؤيتكم لأنفسكم، ولتحتفظوا بنظرة الشفقة علينا ومصمصة الشفاه فلم نعد نحتاجها ولتريحوا ضمائركم التي لم تكن متعبة أصلًا، أما أنا فلن أطلب أن تعطيني الدنيا شيئًا،
وسأوجعكم جميعًا معي ولن أتصنع الابتسامة بعد اليوم، نعم لن أضحك في وجوهكم ثانية في حين أريد أن أخنقكم بيدي، أنت كما يبدو ولدت سعيدًا غنيًا فكيف تفهمني؟